رغم تعدد المبادرات الصادرة عن الرباط لفتح قنوات الحوار مع الجزائر، والتي كان أبرزها دعوة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة عيد العرش في 29 يوليوز 2025، لا تزال الجزائر تلتزم الصمت الرسمي أو ترد برسائل مشروطة عبر وسائل الإعلام. هذه الديناميكية المتكررة تطرح سؤالًا جوهريًا: لماذا ترفض الجزائر الحوار المباشر مع المغرب رغم الظرفية الإقليمية والدولية المتغيرة؟ للإجابة، يمكن تفكيك الموقف الجزائري من خلال أربعة زوايا تحليلية رئيسية:
1. الصحراء.. الخط الأحمر في السردية الجزائرية
تشكل قضية الصحراء المغربية حجر الزاوية في الموقف الجزائري من المغرب. فرغم تأكيد المغرب المستمر أن الجزائر طرف محوري في النزاع بسبب دعمها السياسي واللوجستي لجبهة البوليساريو الانفصالية، ترفض الجزائر الانخراط في حوار مباشر بشأن القضية، لأن ذلك يمثل ـ في نظرها ـ اعترافًا ضمنيًا بكونها طرفًا رسميًا في النزاع، وهو ما يتناقض مع روايتها الدبلوماسية القائمة على كونها “داعمًا لحق الشعوب في تقرير المصير”.
هذا الرفض لا يتعلق فقط بالمضمون، بل بالشكل أيضًا: أي قبول الجزائر بالجلوس إلى طاولة حوار ثنائي مع المغرب حول ملف تعتبره “أمميا”، ما من شأنه أن يُضعف موقفها الثابت في المنتديات الدولية.
2. العداء للمغرب.. عقيدة المؤسسة العسكرية في الجزائر
يُعد الجيش الجزائري الفاعل الأساسي في صياغة القرار السياسي، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا السيادية والعلاقات الإقليمية. ويُوظّف “التهديد المغربي” كأداة لتبرير استمرار النفوذ السياسي للمؤسسة العسكرية داخل البلاد، والحفاظ على ميزانية تسليح مرتفعة في وقت تعاني فيه البلاد من ضغوط اجتماعية واقتصادية متزايدة.
الانفتاح على المغرب في هذا السياق قد يُفقد المؤسسة العسكرية إحدى أبرز أدوات شرعنتها الداخلية، ويفتح الباب أمام أسئلة داخلية حول الدور السياسي للجيش وجدوى الإنفاق الدفاعي.
3. القطيعة الدبلوماسية كورقة تفاوض لا تنازل
منذ قطع العلاقات الدبلوماسية في غشت 2021، تتعامل الجزائر مع القطيعة كأداة تفاوض لا كأزمة دبلوماسية طارئة. فكل دعوة للحوار من الجانب المغربي تقابل إما بصمت محسوب أو بتصريحات إعلامية مشروطة، مما يدل على أن الجزائر تسعى لإبقاء ورقة القطيعة كورقة ضغط تستخدمها وفق مقتضيات السياق الإقليمي والدولي.
الجزائر لا ترى في تطبيع العلاقات هدفًا استراتيجيًا، بل تتعامل معه بمنطق “المقابل السياسي”، سواء تعلق الأمر بتنازلات مغربية محتملة في ملف الصحراء أو في قضايا أخرى تخص التوازنات الإقليمية.
4. التوتر مع المغرب كأداة للهروب من الأزمات الداخلية
تشهد الجزائر في السنوات الأخيرة أزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة، إضافة إلى تراجع الحريات العامة وتضييق متزايد على الأصوات المعارضة. وفي مثل هذا السياق، يُوظّف التوتر مع المغرب كأداة “توحيد وطني” ضد “عدو خارجي”، تُغذى من خلالها مشاعر القومية والتعبئة الداخلية.
الحفاظ على هذا التوتر يخدم ـ من منظور النظام ـ هدف صرف الأنظار عن القضايا الداخلية الحساسة، مثل الفساد، غياب الشفافية، وانسداد الأفق السياسي بعد توقف مسار الحراك الشعبي.
حوار مؤجل أم قطيعة استراتيجية؟
في ضوء هذه الاعتبارات، يبدو أن رفض الجزائر المتكرر لدعوات الحوار المغربية ليس موقفًا ظرفيًا، بل جزء من مقاربة استراتيجية أعمق تستند إلى توازنات داخلية وتحالفات إقليمية. وهو ما يجعل آفاق التهدئة رهينة بتحولات بنيوية داخل الجزائر نفسها، سواء على مستوى تركيبة الحكم أو أولوياتها الجيوسياسية.
لكن في المقابل، فإن استمرار القطيعة على هذا النحو يُهدد بتكريس حالة من الجمود المغاربي، ويُضيع فرصًا ثمينة للتكامل الاقتصادي والأمني في منطقة تواجه تحديات مشتركة لا يمكن تجاوزها إلا عبر الحوار والتعاون، لا الانغلاق والمواجهة.
