تعتزم الحكومة، رفع سعر قنينة غاز البوتان بعشر دراهم خلال شهري ماي أو يونيو المقبلين، في خطوة يُرجى منها تقليص التدخل المالي للدولة في دعم الأسعار وتعزيز نظام المساعدات المباشرة للفئات الأكثر هشاشة، وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول تداعيات القرار الاقتصادية والاجتماعية، ومدى استعداد المغاربة لتقبل هذه التغيرات في ظل الارتفاع المتواصل للأسعار.
ويأتي القرار، الذي أكده والي بنك المغرب في 18 مارس، بعد تأجيله من بداية السنة الجارية إلى ما بعد رمضان، تفاديًا لأي توترات اجتماعية محتملة خلال فترة تعرف عادة ارتفاعًا في الاستهلاك، فيما ورغم أن هذه الزيادة تبدو محدودة من حيث قيمتها المطلقة، إلا أن تأثيرها الاقتصادي والاجتماعي قد يكون كبيرًا، ما يثير تساؤلات حول مدى تأثيره على القدرة الشرائية للمواطنين، والقطاعات التي تعتمد بشكل أساسي على غاز البوتان في نشاطها، كما يفتح النقاش حول فعالية البدائل التي تقترحها الدولة لتعويض المستهلكين الأكثر تضررًا.
وتسير الحكومة، في إطار نهج يسعى إلى تقليص الاعتماد على دعم الأسعار والانتقال نحو دعم مباشر يستهدف الفئات الأكثر هشاشة، إذ تؤكد أن الإبقاء على الدعم العام يُثقل كاهل الميزانية، ويحدّ من قدرة الدولة على تمويل مشاريع تنموية ذات أولوية.
وهذا التوجه ليس جديدًا، فقد بدأ المغرب منذ سنوات في إطار تفكيك منظومة الدعم تدريجيًا، بدءً من إلغاء الدعم عن المحروقات في 2015، ورفع الدعم عن بعض المواد الأساسية بشكل متدرج، والآن، يأتي الدور على غاز البوتان، الذي يعتبر من آخر المواد المدعومة بشكل مباشر من قبل الدولة.
ورغم المخاوف المرتبطة بتداعيات هذا القرار، فإن بنك المغرب يرى أن تأثيره على التضخم سيكون محدودًا، حيث يُتوقع أن يبقى معدل التضخم مستقرًا عند حوالي 2% خلال العامين المقبلين، لكن هذه التطمينات لا تكفي لتهدئة مخاوف المستهلكين سيما وأن الزيادة المرتقبة في سعر قنينة غاز البوتان، تشكل مصدر قلق كبير للأسر المغربية، خصوصًا أن هذه المادة تُعد أساسية في الحياة اليومية، سواء في المنازل أو في العديد من الأنشطة الاقتصادية.
فمن الناحية الاجتماعية، سيؤدي هذا القرار إلى ارتفاع تكاليف المعيشة، خصوصًا بالنسبة للأسر ذات الدخل المحدود التي تعتمد على الغاز في الطهي والتدفئة، وعلى الرغم من أن عشر دراهم قد تبدو زيادة طفيفة، إلا أن تراكم الزيادات في الأسعار في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة قد يجعل التأثير محسوسًا بشكل أكبر.
أما اقتصاديًا، فإن هذه الزيادة لن تؤثر فقط على الاستهلاك الأسري، بل ستمتد إلى العديد من القطاعات التي تعتمد على غاز البوتان كمصدر أساسي للطاقة، أبرزها المخابز والمطاعم، التي تستخدم الغاز في عمليات الطهي والإنتاج اليومي، مما قد ينعكس على أسعار المواد الغذائية الأساسية، ثم قطاع النقل، خاصة العربات التي تعمل بالغاز، والتي قد تشهد زيادة في تكاليف التشغيل، مما قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار بعض خدمات النقل، هذا إلى جانب القطاع الفلاحي، حيث يُستخدم الغاز في تشغيل بعض المعدات وتدفئة البيوت البلاستيكية، وهو ما قد يؤثر على تكلفة الإنتاج الزراعي.
ولمواجهة التداعيات الاجتماعية لهذه الزيادة، أعلنت الحكومة عن وضع تدابير مرافقة تهدف إلى تخفيف العبء عن الأسر الأكثر هشاشة، من خلال تقديم مساعدات مباشرة، لكن لم يتم الكشف بعد عن تفاصيل هذه الإجراءات، فيما هذا الغموض يثير العديد من المخاوف حول مدى فعالية هذه التدابير، خاصة أن تجارب سابقة أظهرت أن برامج الدعم المباشر لا تصل دائمًا إلى جميع المستفيدين بسبب العراقيل الإدارية وضعف آليات الاستهداف.
والتحول نحو نموذج اقتصادي جديد يعتمد على تقليص الدعم الحكومي قد يكون ضروريًا لضمان استدامة المالية العامة، لكن نجاحه يبقى رهينًا بمدى قدرة الدولة على توفير بدائل فعالة تحمي الفئات الأكثر هشاشة، ففي دول أخرى، أثبتت تجارب رفع الدعم أن التخلي عن الأسعار المدعمة دون توفير آليات دعم قوية قد يؤدي إلى موجة من الاحتجاجات الشعبية، كما حدث في عدة دول نامية حاولت تطبيق سياسات مشابهة.
وبالنظر إلى أن شرائح واسعة من المجتمع المغربي تعتمد على هذا الدعم في تسيير شؤونها اليومية، فإن أي قرار لا يراعي التوازن بين الإصلاح الاقتصادي والتداعيات الاجتماعية قد يؤدي إلى احتجاجات أو تراجع ثقة المواطنين في السياسات الحكومية.
وفي هذا الإطار، انتقد الخبير الاقتصادي يوسف العلوي، المتخصص في السياسات المالية والتوازنات الماكرو اقتصادية، قرار الحكومة المغربية برفع سعر قنينة غاز البوتان بعشر دراهم في هذه الفترة الاقتصادية التي تمر منها البلاد، معتبرًا أنه خطوة غير متوازنة قد تؤدي إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة إذا لم تُرافقها إجراءات حقيقية وفعالة لحماية الفئات الهشة والقطاعات المتضررة.
وقال العلوي في تصريح لـ “الصحيفة”، إن إلغاء الدعم بشكل تدريجي هو ضرورة اقتصادية لا شك فيها، خاصة مع ارتفاع كلفة الدعم التي تثقل كاهل الميزانية العامة، لكن الحكومة تعتمد مقاربة تقنية بحتة دون مراعاة الأثر الاجتماعي العميق لهذا القرار، معتبرا أن رفع الدعم عن غاز البوتان، الذي يُعتبر سلعة استراتيجية بالنسبة للمواطنين والقطاعات الإنتاجية، يجب أن يتم في سياق شامل يشمل سياسات تعويضية فعالة، وليس عبر زيادة مباشرة في الأسعار دون إجراءات واضحة لتخفيف أثرها.”
وأوضح العلوي، أن الحكومة لم تُقدّم حتى الآن نموذجًا واضحًا لآليات الدعم المباشر التي تعوّض الفئات المتضررة، مشيرًا إلى أن برامج الاستهداف الاجتماعي التي تم الإعلان عنها سابقًا لا تزال تواجه صعوبات في التطبيق، نظرًا لعدم دقة قواعد البيانات وعدم وضوح المعايير التي يتم اعتمادها لتحديد المستفيدين.
وأضاف: “المفارقة الكبرى أن الحكومة تدعي أن هذه الزيادة لن تؤثر على معدل التضخم، لكن الواقع أن رفع أسعار غاز البوتان سيمتد أثره إلى قطاعات حيوية مثل المخابز، والمطاعم، والنقل، وحتى بعض الأنشطة الزراعية، مما قد يؤدي إلى موجة ارتفاع جديدة في الأسعار، وعندما تزداد تكاليف الإنتاج، من الطبيعي أن يُحمل الفاعلون الاقتصاديون هذه التكلفة للمستهلك النهائي، مما يعني أن المواطن العادي سيكون المتضرر الأول من هذه السياسة.”
وحذر العلوي من أن تكرار سيناريو رفع الدعم عن المحروقات في 2015 قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية إذا لم تتم إدارة هذا الانتقال بشكل حكيم، موضحًا أن الحكومة فشلت في تقديم بدائل قوية للطبقات المتوسطة والفقيرة بعد تحرير أسعار الوقود، مما أدى إلى ارتفاع تكاليف النقل والمعيشة، دون أن يتم تعويض ذلك بزيادة في الأجور أو بتحسين القدرة الشرائية.
وشدّد المتحدث ذاته، على أن”إصلاح نظام الدعم لا يجب أن يكون مجرد قرار مالي أحادي الجانب، بل يجب أن يكون جزءًا من رؤية اقتصادية واجتماعية متكاملة، إذا لم تُرافق هذه الزيادة إجراءات ملموسة لدعم الفئات الأكثر تضررًا، فإننا سنكون أمام أزمة معيشية جديدة ستُضعف ثقة المواطنين في السياسات الاقتصادية للحكومة.”