“إيض يناير”.. احتفال أمازيغي وطقوس متجذرة تعكس عمق الارتباط بالأرض

في قلب جبال الأطلس وسهول المغرب الواسعة، وبين أزقة القرى والحواضر، ينبض الزمن بإيقاع مختلف كلما حل يوم 14 يناير، موعد الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، أو ما يعرف بـ”إيض يناير”.

إنه أكثر من مجرد مناسبة عابرة، هو حكاية شعب متجذر في الأرض، يصنع من طقوسه جسورا تربط الماضي بالحاضر، وتستنهض ذاكرة الأجداد في تفاصيل الحياة اليومية.

 

احتفال بالأرض وبداية موسم جديد
لا يستند الاحتفال بـ”إيض يناير” إلى مرجعية دينية أو طقسية، بل هو احتفاء رمزي بانتصار الإنسان الأمازيغي على تحديات الطبيعة، وتقدير لما تجود به الأرض من خيرات. إنه إعلان لبداية موسم زراعي جديد، تستحضر فيه قيم التفاؤل بغد أكثر خصوبة وعطاء.

 

تتنوع الأطباق التقليدية التي تزين موائد الأمازيغ في هذه الليلة، لكنها جميعا تحمل دلالة واحدة: الامتنان للأرض. ففي سوس، يتم إعداد طبق “تكلا” من دقيق الشعير أو الذرة، مزينا بالفواكه الجافة أو البيض المسلوق.

 

أما في مناطق أخرى، فيتفنن الأهالي في تحضير “الكسكس بالسبع خضار” أو حساء “إيمشيخن”، الذي يضم مزيجا غنيا من الحبوب والبقوليات، وكأنها رسالة بأن التنوع سر الحياة.

 

ولا يخلو الاحتفال من طقوس رمزية مثل دس نواة تمر في الطعام، اعتقادا بأن من يعثر عليها سيحظى بحظ وفير طوال السنة.

 

الاحتفال رغم القيود.. تشبث بالهوية
حتى في أصعب الظروف، كما حدث خلال جائحة كورونا، لم يتخل الأمازيغ عن طقوسهم. صحيح أن التجمعات الكبرى غابت بفعل القيود الصحية، لكن الاحتفال وجد طريقه إلى البيوت والشاشات.

 

انتقلت الندوات والمحاضرات إلى الفضاء الرقمي، وأحييت السهرات الفنية عبر منصات التواصل الاجتماعي، وكأن لسان حال الأمازيغ يقول: “الاحتفال ليس في الزحام، بل في القلب”.

 

هذا الإصرار على إحياء التقاليد، حتى في أحلك الظروف، يكشف عن عمق الارتباط بالهوية الأمازيغية التي ظلت عصية على النسيان، متجددة عبر الأجيال.

 

“إيض يناير”.. مرآة لتاريخ شعب وهوية وطن
يظل “إيض يناير” شاهدا حيا على التاريخ الأمازيغي الممتد لآلاف السنين. هو ليس مجرد احتفال، بل انعكاس لفلسفة حياة ترى في الأرض أمًا كبرى، وفي العادات والتقاليد جسرا يعبر بالأجيال نحو المستقبل دون أن يفقدوا جذورهم.

 

تتجسد في هذه المناسبة قيم التضامن الأسري والاجتماعي، حيث تتلاقى العائلات، وتفتح الأبواب للضيوف، وتقسم الأطباق بين القريب والبعيد.

 

إنها لحظة احتفاء لا تقتصر على الأمازيغ وحدهم، بل تمتد لتشمل كل من آمن بأن هوية المغرب فسيفساء تتقاطع فيها الثقافات لتنسج لوحة وطنية متكاملة.

بين طقوس الطعام المتوارثة والاحتفالات التي تتحدى الظروف، وبين مطالب تعزيز الاعتراف الرسمي بالثقافة الأمازيغية، يظل “إيض يناير” أكثر من مناسبة؛ هو فصل من كتاب التاريخ المغربي الذي لم يكتب بالكامل بعد. هو صدى لصوت الأرض، ونداء للهوية بأن تبقى حاضرة، مزدهرة، وراسخة في وجدان شعب لم يتخل يوما عن جذوره.