بدينامية إيجابية لا تخطئها العين، اتسمت العلاقات المغربية الإسبانية خلال عام 2024، بمرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي الوثيق، الذي شمل مختلف المجالات، الاقتصادية، السياسية، الأمنية، والثقافية؛ هذه العلاقات، التي طالما تميزت بالدينامية النشطة، والتحديات المشتركة، عرفت زخماً خاصاً، بفضل الزيارات الرسمية، والمبادرات الثنائية التي عزّزت الشراكة بين البلدين، ونقلتها إلى أعلى المستويات.
تعزيز الشراكة الاقتصادية.. أرقام قياسية ومشاريع مشتركة
شهد التبادل التجاري بين المغرب وإسبانيا خلال عام 2024، قفزة نوعية، بلغت إثره قيمة المبادلات التجارية بين البلدين، حوالي 20 مليار يورو، بزيادة تُقدّر بـ15 في المائة، مقارنة بالعام السابق، وحافظ خلاله المغرب على مكانته كشريك اقتصادي رئيسي لإسبانيا في منطقة شمال إفريقيا، بينما ظلت إسبانيا الشريك التجاري الأول للمغرب.
كما أن الصادرات المغربية إلى إسبانيا، تنوعت بين المنتجات الزراعية (40 في المائة)، النسيج (25 في المائة)، والمنتجات الصناعية (35 في المائة). بينما شملت الواردات المغربية من إسبانيا، المعدات الصناعية (50 في المائة)، المنتجات الكيماوية (30 في المائة)، والمواد الغذائية (20 في المائة).
وعلى مستوى الاستثمارات، أطلقت شركات إسبانية كبرى، مشاريع جديدة في المغرب، من أبرزها، مشروع للطاقة الشمسية في ورزازات، بميزانية تُقدر بـ500 مليون يورو، ومشروع لتوسيع شبكة النقل البحري بين ميناء طنجة المتوسط وموانئ إسبانيا، مما يعزز مكانة المغرب كمركز لوجستي في إفريقيا.
القطاع الفلاحي.. ركيزة من ركائز التعاون الثنائي بين الرباط ومدريد
في وقت تمرّ فيه العلاقات المغربية الإسبانية من أزهى فتراتها من حيث زخم ودينامية التعاون في مختلف المجالات، لا سيما الفلاحة، خاصة بعد زيارات متتالية حملت مسؤولين رفيعي المستوى من الجارة الشمالية إلى المغرب، جاءت مشاركة إسبانيا كـ”ضيف شرف” في الدورة السادسة عشرة للمعرض الدولي للفلاحة بمكناس، لتُمثل شاهدا حيّا على تميز العلاقات بين الرباط ومدريد.
وجاء الحضور الإسباني في المعرض وسط “القطب الدولي”، ممثلا بحوالي 35 شركة ومقاولة متعددة التخصصات والتقنيات الفلاحية، استعرضت لعدد من الزائرين أقبلوا بكثافة على اكتشاف جديد المَكْنَنة الزراعية في إسبانيا، خاصة في مجالات أنظمة الري الفلاحي، والزراعات البيولوجية.
وفي سياق متصل، فقد دعمت إسبانيا، المغرب، عقب صدور حكم محكمة العدل الأوروبية، الذي ألغى الاتفاقية البحرية المبرمة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، بسبب زعم “عدم مراعاتها لمصالح سكان الصحراء”، إذ دعا وزير الفلاحة والصيد البحري الإسباني، لويس بلاناس، إلى “تعميق العلاقات الاستراتيجية مع المغرب”.
وأكد بلاناس، في تصريحات للصحافة من لوكسمبورغ، قبل اجتماع وزراء الفلاحة والصيد البحري للاتحاد الأوروبي، قائلاً: “نحن نحترم الحكم، لكننا مهتمون سياسيًا جدًا بتعزيز العلاقات الاستراتيجية مع المغرب”، وفق قوله.
وعند سؤاله عما إذا كان يرى ضرورة التفاوض على اتفاق جديد يشمل جبهة البوليساريو الانفصالية، أوضح بلاناس، أن الاتحاد الأوروبي “يجب أن يقيم العواقب [المترتبة على الأحكام] من الناحية القانونية والسياسية”، بعد حكم محكمة العدل الأوروبية.
قضية الصحراء المغربية.. دعم إسباني متواصل لمبادرة الحكم الذاتي
ملف الصحراء المغربية، ظل حاضرًا بقوة في العلاقات الثنائية خلال عام 2024، وذلك بعدما بدّدت الزيارة التي أجراها رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، ووزير خارجيته، خوسيه مانويل ألباريس، إلى المغرب، في شهر فبراير الماضي، آمال خصوم الوحدة الترابية للمملكة المغربية، في مقدمتهم، النظام العسكري الحاكم في الجزائر، وجبهة البوليساريو المدعومة من طرفه، بشأن إمكانية تراجع الدولة الإسبانية عن دعم مقترح الحكم الذاتي المغربي.
ومما عزّز تلك القناعة لدى المتتبعين لهذا الملف، هو تجديد سانشيز موقف بلاده من قضية الصحراء المغربية، أمام أعلى سلطة في المغرب، وذلك خلال اللقاء الذي جمعه بالملك محمد السادس، بالقصر الملكي بالرباط.
وفي خطوة أخرى تلت تأكيد سانشيز دعم بلاده لمخطط الحكم الذاتي المغربي للصحراء، تبع رئيس حكومة جزر الكناري، فرناندو كلافيخو، النهج ذاته، معلناً ضمن ندوة صحفية مشتركة مع وزير الشؤون الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، خلال الزيارة التي قام بها إلى المغرب، في شهر أكتوبر الماضي، أن “جزر الكناري تريد علاقات جيدة، وبناء فصل جديد مع الرباط، في جو من التعاون في شتى المجالات”، كاشفًا أن “الكناري تدعم الموقف الإسباني الذي يدعم الحكم الذاتي في الصحراء”.
ورغم الانتقادات التي واجهتها الحكومة الإسبانية من بعض الأحزاب المعارضة، خاصة حزب “فوكس” اليميني المتطرف، فإن هذا الدعم، يعكس تحولًا استراتيجيًا في السياسة الخارجية الإسبانية، بما يتماشى مع المصالح المشتركة بين البلدين.
التعاون الأمني والهجرة ومكافحة الإرهاب.. شراكة لمواجهة التحديات المشتركة
شهد التعاون الأمني بين المغرب وإسبانيا خلال عام 2024، تطورًا ملحوظًا، وذلك بعدما تصدرت إسبانيا قائمة الشركاء الأمنيين للمغرب بنسبة 37 في المائة من مجموع التعاون الشرطي الدولي، متبوعة بفرنسا بنسبة 28 في المائة، وألمانيا بنسبة 11 في المائة، والولايات المتحدة بنسبة 10 في المائة.
ونفذت الشرطة الوطنية الإسبانية، في نونبر الماضي، عملية واسعة النطاق ضد “الإرهاب الجهادي” في عدة مقاطعات، كان مركزها في سبتة المحتلة، أسفرت عن اعتقال أربعة أشخاص في حي “البرينسيبي” بسبتة، واثنين آخرين في مدريد، وإيبيزا، في عملية جاءت بالتعاون مع المغرب، إذ اعتقلت المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، ثلاثة أفراد في تطوان والفنيدق، مما رفع إجمالي المعتقلين في إسبانيا خلال هذا العام 63 شخصًا مرتبطين بـ”الإرهاب الجهادي”، متجاوزًا عدد المعتقلين في العام السابق.
مكافحة الهجرة غير النظامية (نداء 15 شتنبر نموذجاً)
لا يختلف اثنان، في أن العلاقات المغربية الإسبانية، واجهت اختباراً حقيقياً في 15 شتنبر 2024، وذلك بعدما عزّزت سلطات البلدين، الإجراءات الأمنية على الحدود المزعومة في سبتة المحتلة، استجابةً لدعوات تحريضية على وسائل التواصل الاجتماعي، لتنفيذ محاولات اقتحام جماعية للسياج الفاصل، بما شمل زيادة مستمرة في عدد القوات في المنطقة، مما ساهم في إحباط هذه المحاولات، والحفاظ على الأمن والاستقرار على الحدود المشتركة.
كما كشف تقرير منجزات وزارة الداخلية المغربية برسم السنة المالية 2024، أن المصالح المعنية بمحاربة شبكات تهريب المهاجرين، تمكنت في الأشهر التسعة الأولى من السنة الجارية، من تفكيك 210 شبكات إجرامية، وأحبطت 48 ألفا و963 محاولة لتهريب المهاجرين، وأغلبهم عبر البحر الأبيض المتوسط نحو الأراضي الإسبانية، فيما كان البعض الآخر إلى الأراضي الإسبانية عبر المحيط (جزر الكناري).
وأفاد التقرير الذي أحيل على البرلمان، في إطار مناقشة الميزانية الفرعية للوزارة، بأن الإستراتيجية الأمنية المتبعة من طرف المصالح المعنية بمحاربة شبكات تهريب المهاجرين، أفضت منذ بداية هذه السنة، إلى غاية متم شهر شتنبر 2024، إلى “تحقيق نتائج إيجابية تمثلت في إفشال 48.963 محاولة لتهريب المهاجرين، وتفكيك 210 شبكات إجرامية تنشط في هذا النوع من التهريب”.
ومن جهة أخرى، عززت هذا التقرير، معطيات حديثة صادرة عن المديرية العامة للأمن الوطني، التي كشفت خلال تقديم حصيلتها السنوية لعام 2024، عن تمكنها من تفكيك 123 شبكة إجرامية متخصصة في تنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر، ما يمثل زيادة بنسبة 2 في المائة مقارنة بالعام الماضي. مشيرة إلى أن العمليات الأمنية أسفرت عن توقيف 425 منظمًا ووسيطًا في قضايا مرتبطة بالهجرة، إلى جانب حجز 713 وثيقة سفر مزورة، فضلاً عن اعتراض 32,449 شخصًا كانوا ينوون دخول إسبانيا بطريقة غير قانونية، من بينهم 9,250 أجنبيًا.
وفي السياق ذاته، تم تسجيل ظهور أسلوب إجرامي جديد هذا العام، يتعلق بقضايا الهجرة غير النظامية، ويتمثل في نشر دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي للتحريض على الهجرة الجماعية، يمثل ما عرف إعلامياً بـ”نداء 15 شتنبر”، أكبر نموذج حي له، حيث تم تحديد هوية 65 شخصًا متورطًا في هذه الأنشطة، من بينهم 50 شخصًا تم توقيفهم وإحالتهم على العدالة.
التعاون في مواجهة الكوارث الطبيعية
وفي أعقاب الفيضانات المدمرة التي ضربت منطقة فالنسيا في جنوبي إسبانيا، أرسل المغرب فريقًا مكونًا من 80 فردًا، و25 شاحنة متخصصة للمساعدة في عمليات التنظيف وإزالة الأوحال في المناطق المتضررة، حيث يأتي هذا الدعم، في إطار اتفاقية ثنائية بين وزارتي الداخلية والخارجية في البلدين، مما يعكس التضامن والتعاون الوثيق بينهما.
وتُبرز هذه الإحصائيات والعمليات المشتركة، مدى فعالية التعاون الأمني بين المغرب وإسبانيا في مواجهة التحديات المشتركة، مما يعزز الأمن والاستقرار في المنطقة.
الدبلوماسية الثقافية.. جسور للتفاهم المتبادل
وإلى جانب التعاون الاقتصادي والسياسي، شهدت العلاقات الثقافية بين المغرب وإسبانيا، تطورًا لافتًا خلال عام 2024، إذ أجرى وزير الشباب والثقافة والتواصل، محمد مهدي بنسعيد، بتاريخ 29 مارس 2024 بالرباط، مباحثات مع سفير إسبانيا بالمغرب، إنريكي أوخيدا، تمحورت حول سبل تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الشباب والثقافة والتواصل.
وذكر بلاغ لوزارة الشباب والثقافة والتواصل، آنذاك، أن الجانبين، تطرقا لأهمية تقريب الثقافات بين الشعبين المغربي والإسباني، خصوصا وأن البلدين مقبلين على حدث تنظيم نهائيات كأس العالم 2030، إلى جانب البرتغال.
وفي الصدد ذاته، سبق لوزير الشؤون الخارجية الإسباني، أن أكد بتاريخ 11 نونبر الماضي، على أهمية تعزيز الروابط الثقافية بين المغرب وإسبانيا.
ووصف ألباريس، المغرب، بـ”الشريك الاستراتيجي”، و”البلد الصديق”، وقال إن بلاده تعتزم تعزيز حضور اللغة الإسبانية في المغرب،في إطار الجهود الرامية إلى تعزيز الروابط الثقافية بين البلدين.
وأعلن رئيس الدبلوماسية الإسبانية، الذي ترأس الاجتماع الأول للمرصد العالمي للغة الإسبانية في مدريد، عن إطلاق دراستين معمقتين حول وضع اللغة الإسبانية في المغرب والبرازيل، في أفق تعزيز حضور لغة “ثيربانتس” في المجالات الرئيسية.
وسيتم إنجاز الدراستين من قبل المرصد العالمي للغة الإسبانية، لتقييم تأثير اللغة الإسبانية، ومساهمتها في القطاعات الاستراتيجية، مثل العلوم، والتكنولوجيا، والدبلوماسية.
وفي مجال التعليم، تم توقيع اتفاقية لتعزيز برامج التبادل الطلابي بين الجامعات المغربية والإسبانية، حيث استفاد أكثر من 1,000 طالب مغربي وإسباني من هذه البرامج خلال العام؛ كما تم إدراج اللغة الإسبانية في المناهج الدراسية المغربية بشكل أوسع، مع التركيز على تعزيز تعليم اللغة العربية في المدارس الإسبانية.
مونديال 2030.. حلم مشترك وتعزيز للشراكة الرياضية بين المغرب وإسبانيا
في عام 2024، شكّلت الاستعدادات المشتركة لتنظيم كأس العالم 2030، نقطة تحول استراتيجية في تعزيز العلاقات بين المغرب وإسبانيا، وذلك بعدما أُعلن عن فوز الملف المشترك للمغرب وإسبانيا والبرتغال، بتنظيم البطولة، مما أتاح فرصة لتوطيد التعاون في مجالات متعددة.
وفي إطار التحضير للبطولة، طلبت المملكة المغربية، دعم إسبانيا، في تطوير بنيتها التحتية، خاصة في قطاع النقل، حيث تعاونت شركة “إينيكو” الإسبانية، المتخصصة في الهندسة والاستشارات، مع المغرب لتحسين الربط السككي بين مدينتي طنجة وتطوان، بالإضافة إلى إنشاء وصلات مع الملاعب الرياضية، ومطار طنجة، في تعاون يعتبر تجسيدًا للعلاقات المتميزة بين البلدين، ويعكس التزامهما المشترك بتطوير البنية التحتية استعدادًا للحدث الرياضي الكبير.
ومن المتوقع أن يسهم تنظيم كأس العالم 2030 في تحفيز الاقتصاد المغربي، من خلال زيادة الاستثمارات في قطاعات السياحة والبناء والنقل؛ كما يُتوقع أن يخلق الحدث فرص عمل جديدة، مما يساهم في تقليص معدلات البطالة وتعزيز التنمية الاقتصادية.
كما يُعد تنظيم كأس العالم 2030، فرصة لتعزيز التبادل الثقافي والرياضي بين المغرب وإسبانيا، وذلك من خلال استضافة المباريات والأنشطة الثقافية، مما يمكن للبلدين تعزيز التفاهم المتبادل وتوطيد العلاقات بين شعبيهما.
عام محوري وآفاق واعدة
يمكن القول، إن عام 2024، كان عامًا محوريًا في مسار العلاقات المغربية الإسبانية، ذلك أن هذه العلاقات، شهدت تطورًا ملحوظًا في مختلف المجالات، من الاقتصاد والسياسة، إلى الأمن والثقافة والرياضة؛ ورغم وجود بعض التحديات، مثل زيارة وزيرة الدفاع الإسبانية للجزر الجعفرية، والظهور الأخير لرئيس الحكومة الإسبانية، أمام خلفية فيها خريطة المغرب مبتورة الصحراء، فإن التزام البلدين بالحوار والتعاون، ساهم في تجاوز الخلافات، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية.
ومع استمرار التنسيق الوثيق بين الرباط ومدريد، تبدو آفاق العلاقات الثنائية واعدة، خاصة في ظل التركيز على تطوير الطاقات المتجددة، وتعزيز التعاون في القضايا الإقليمية والدولية؛ هذا التعاون، يجعل من العلاقات المغربية الإسبانية نموذجًا يُحتذى به في منطقة البحر الأبيض المتوسط.