معلّم الرخام الذي هيأ قبر الملك الحسن الثاني يحكي أسرار المهمة التي كلفه بها

يدلي الصحافي الصديق معنينو الذي كان جد مقرب بحكم مهمته الصحافية، من العديد من الوقائع في المحيط الضيق للملك الحسن الثاني، وكبار صناع القرار السياسي طيلة أربعة عقود، بشهادته لحفظ الذاكرة عبر مذكرات “مغرب زمان”، حيث يتناول السنوات الخمس الأخيرة من حياة الحسن الثاني والتي عرفت كثافة كبرى من حيث الأحداث المتتالية، مرض الملك الراحل وعناده الذي لا يقاوم في مواجهة معاناة المرض في صمت، وكيف سهر بنفسه على حفر القبر، وبعبارته التي نقلها معنينو على لسان الرخام الذي أعد القبر “المحل المعلوم”، وكيف أشرف محمد السادس على الترتيبات الأخيرة لقبر الحسن الثاني..

يضيف محدثي بأن الحسن الثاني دعاه للحضور إلى قصر الصخيرات، الذي كان يقيم فيه كعادته في فصل الصيف، «فعلا ذهبت في الموعد المحدد، وانتظرت في خيمة كانت منصوبة هناك قريبا من المسبح. بعد ذلك حضر الملك، وتقدمت مختلف الشخصيات للسلام عليه وكنت من بينها.. لاحظت فورا أن الملك يتكئ على عصا، وهي أول مرة أرى فيها ذلك، كما لاحظت أنه فقد الكثير من وزنه، بحيث أصبح نحيفا.. كان يمشي بتؤدة، وكأنه يخشى السقوط، لكنه في نفس الوقت ظل يتمتع بهيبة قل نظيرها..

 

كعادتي انحنيت وقبلت يده، تراجعت قليلا إلى الوراء وأنا مطأطئ الرأس في انتظار الأمر الملكي.. ظل الحسن الثاني صامتا لحظات ثم قال لي « آلمعلم، وجد المحل»، أجبت «الله يبارك في عمر سيدي..» ورفعت رأسي قليلا، وقد رسمت على وجهي ما يوحي بأنني أتساءل عن معنى المحل؟ وماذا يقصد الملك بذلك؟ وماذا هو منتظر مني؟ كانت هذه طريقة تعاملي مع الحسن الثاني، فلم أقل له يوما إنني لم أفهم قصده أو سألته ماذا يعني أو طلبت منه أن يدقق تعليماته.

 

بادر الملك للقول: «عليك بإعداد المحل»، ولما لاحظ نفس التساؤل والاندهاش عبر أسارير وجهي قال لي بصوت هادئ.. «المحل المعلوم»، ظننت في البداية أن الملك يريد مداعبتي، كما حدث بضع مرات حين كان يفاجئني بطلبات غريبة، تعكس ذوقا راقيا في البناء التقليدي، لكنه أمام صمتي وحيرتي قال لي: «عليك بإعداد قبري.. حان الوقت» ويعترف محدثي: «شعرت وكأن الملك رماني بقنبلة».

 

انفجرت واضطرب جسدي، وارتعشت يدي وبدأت في البكاء، لا أدري ماذا مسني، ولا أدري ماذا أصابني، وإذا بي أرتمي على رجلي الملك وأمسك بهما وأصيح وأنا أواصل البكاء: «أطال الله عمر سيدنا.. حفظ الله سيدنا». ظل الملك واقفا، وقال لي «كل نفس ذائقة الموت.. الصبر أ لمعلم.. الصبر والهدوء».

 

بعد لحظات اضطراب، ساعدني على الوقوف وقال لي: ”اذهب إلى الضريح، وهيئ المحل.. والأمور بيد الله ولا بد من السرية وعدم إثارة الانتباه.. !». انحنيت من جديد، وقبلت يده، ودعوت له بالصحة والعافية والسلامة وطول العمر، وقلت له كلاما لا أتذكره بالضبط، لأنه كان تحت ضغط العاطفة والتأثر، لكنه قاطعني وقال.. «وجد لي محلي آلمعلم»، ثم انصرف وابتسامة جميلة على محياه.

 

غادر القاعة، وأحاط به عدد من المسؤولين، ومنهم أحمد بنسودة، الذي كان يتكلم بصوت مرتفع، ولا أدري ماذا قال، لأن الجميع ضحك، كما أن الملك هو الآخر انفجر ضاحكا، وبذلك كانت آخر مرة رأيت فيها الحسن الثاني يضحك بهذه الطريقة، وكأنه نسي المهمة التي كلفني بها.. أو كأنه لا يريد إزعاج مساعديه، وبث روح الكآبة على جمعهم. كان قوي الشخصية مؤمنا بالقضاء والقدر.